دعوة إلى الإعتدال
أ. د. محمد سليمان الدجاني الداودي
ألقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خط ابًا حماسيًا في جامعة الأزهر بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف، دعا فيه إلى إصلاح الدين وتطهير الإسلام من الأفكار المتطرفة. وبالرغم من أنه لا يجوز التغاضي عن هذه المناشدة، لا سيما إثر السلسلة المأساوية من الهجمات الإرهابية التي شهدتها باريس، إلا أنها تفرض عدة تساؤلات معقّدة: كيف يمكن إصلاح الدين؟ كيف يمكن تطهير الإسلام، لا بل كل الديانات، من الراديكاليين والمتطرفين والمتشددين الذين يحرضون على الكراهية والتعصب والعنف باسم الله. هل بإمكان الدولة أن تفرض أصلاحاً دينياً من دون أن تحظى بدعم السلطات الدينية الرسمية؟ وهل يمكن القيام بمراجعة صادقة لتفسيرات القرآن لتجنب الغلو من دون التسبب باندلاع ثورة مضادة؟
تتشارك النصوص الدينية، سواء لدى الإسلام أو اليهودية أو المسيحية، بقيم مماثلة قائمة على السلام والعدالة والرحمة والتسامح والمصالحة والاعتدال، حتى أن القرآن يحذّر من التطرف الديني بقوله تعالى في سورة النساء: “لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ”. كذلك أوصى النبي محمد (ص) أتباعه بتبني الاعتدال في قوله: “خير الأمور أواسطها”. وبالرغم من ذلك، يبشر العديد من الدعاة عن تفوق دينهم على الديانات الأخرى، ولا يبدون اهتمامًا بالحوار البنّاء القائم على الاحترام المتبادل والاعتدال والتفاهم بينالأديان.
صدق السيسي عندما قال بأن صلب المشكلة يكمن في “نصوص وأفكار تم تقديسها على مئات السنين،” إلا أن هذه الخطوة من قبل الرئيس المصري، والمرحب بها، ليست سوى البداية. فالمسلمون المتطرفون يعمدون منذ فترة طويلة إلى تفسير آيات القرآن بحيث تخدم أجنداتهم السياسية الخاصة، ولم يتحلّ سوى قلة من المعتدلين بالشجاعة لمواجهتهم.
على سبيل المثال، هناك تفسير خاطئ للآيتين السادسة والسابعة من سورة الفاتحة التي جاء فيها ما يلي: “اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ.” فتفسير المتطرفون الإسلاميون لهاتين الآيتين هو أن الذين أنعم الله عليهم هم المسلمون والمغضوب عليهم هم اليهود والضالّين هم المسيحيون. إلا أن التفسير الأدق والمنسجم أكثر مع ما ورد في القرآن لهاتين الآيتين فهو أن المؤمنين مباركون، سواء أكانوا مسلمين أو يهود أو مسيحيين، والكافرين ملعونون والضالين هم المنافقون. فالإسلام رسالة سماوية موجهة للبشرية جمعاء.
وهناك الآية التاسعة عشرة من سورة آل عمران: “إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ”. بالنسبة للمتطرفين المسلمين فإن هذه الآية تعني أن الله فرّق بين الإسلام والمسيحية واليهودية، ولكن في الواقع تشير كلمة “الإسلام” في هذا السياق إلى أولئك الذين يعبدون الله، بمن فيهم اليهود والمسيحيون والمسلمون. وهذا ما تبيّنه سورة آل عمران: “قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.”
علاوة على ذلك، تبنّى المتطرفون حديث منسوب للرسول الكريم محمد (ص) ورد في صحيح مسلم يتعلّق بتنبؤ النبي (ص) نشوب معركة فاصلة في يوم القيامة ما بين اليهود والمسلمين، والتي ستكون نتيجتها هزيمة اليهود وإبادتهم. ويصف الحديث كيف أن الأشجار والحجارة ستدعو المسلمين إلى قتل اليهود المختبئين خلفها. غير أن هذا الحديث يناقض تعاليم الإسلام ونص القرآن و السنة النبوية. فنجد في سورة آل عمران الآية التالية: ” نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ.” وفي سورة العنكبوت، نجد الآية التالية: “وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.” هناك العديد من النصوص الأخرى في القرآن والحديث بما فيها السير الذاتية للرسول الكريم المسجلة في مجموعة أحاديث صحيح البخاري، التي تعارض القراءة المتطرفة التي تم ذكرها آنفاً. فالبخاري يروي حادثة وقف فيها النبي محمد (ص) احترامًا لجنازة صودف مرورها بجانبه، وعلّق الصحابة قائلين: “إنها جنازة يهودي،” فأجاب النبي: “أليست نفسًا؟”
لا يجوز أن يبقى المسلمون المعتدلون مكتوفي الأيدي، إذ علينا أن نوحد جهودنا ونقر بأن ديانتنا يتم استغلالها من قبل أقلية صغرى لغايات سياسية. ولا بد من أن نرفع الصوت عاليًا مهما كانت المخاطر المحدقة بنا لندافع عما نؤمن به. فأصواتنا الموحدة قادرة على كبح جماح الإسلام المتطرف، وعلينا أن ننطلق من قدرتنا على الإبداع والابتكار لتعزيز الاعتدال في الدين والسياسة والحياة، ونسعى إلى تشكيل عالم تسوده المساواة والعدالة والديمقراطية والازدهار. فهذا هو الطريق الصواب.
محمد سليمان الدجاني الداودي هو أستاذ العلوم السياسية ومؤسس حركة الوسطية القائمة على العدل والإعتدال..
أ. د. محمد سليمان الدجاني الداودي
ألقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خط ابًا حماسيًا في جامعة الأزهر بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف، دعا فيه إلى إصلاح الدين وتطهير الإسلام من الأفكار المتطرفة. وبالرغم من أنه لا يجوز التغاضي عن هذه المناشدة، لا سيما إثر السلسلة المأساوية من الهجمات الإرهابية التي شهدتها باريس، إلا أنها تفرض عدة تساؤلات معقّدة: كيف يمكن إصلاح الدين؟ كيف يمكن تطهير الإسلام، لا بل كل الديانات، من الراديكاليين والمتطرفين والمتشددين الذين يحرضون على الكراهية والتعصب والعنف باسم الله. هل بإمكان الدولة أن تفرض أصلاحاً دينياً من دون أن تحظى بدعم السلطات الدينية الرسمية؟ وهل يمكن القيام بمراجعة صادقة لتفسيرات القرآن لتجنب الغلو من دون التسبب باندلاع ثورة مضادة؟
تتشارك النصوص الدينية، سواء لدى الإسلام أو اليهودية أو المسيحية، بقيم مماثلة قائمة على السلام والعدالة والرحمة والتسامح والمصالحة والاعتدال، حتى أن القرآن يحذّر من التطرف الديني بقوله تعالى في سورة النساء: “لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ”. كذلك أوصى النبي محمد (ص) أتباعه بتبني الاعتدال في قوله: “خير الأمور أواسطها”. وبالرغم من ذلك، يبشر العديد من الدعاة عن تفوق دينهم على الديانات الأخرى، ولا يبدون اهتمامًا بالحوار البنّاء القائم على الاحترام المتبادل والاعتدال والتفاهم بينالأديان.
صدق السيسي عندما قال بأن صلب المشكلة يكمن في “نصوص وأفكار تم تقديسها على مئات السنين،” إلا أن هذه الخطوة من قبل الرئيس المصري، والمرحب بها، ليست سوى البداية. فالمسلمون المتطرفون يعمدون منذ فترة طويلة إلى تفسير آيات القرآن بحيث تخدم أجنداتهم السياسية الخاصة، ولم يتحلّ سوى قلة من المعتدلين بالشجاعة لمواجهتهم.
على سبيل المثال، هناك تفسير خاطئ للآيتين السادسة والسابعة من سورة الفاتحة التي جاء فيها ما يلي: “اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ.” فتفسير المتطرفون الإسلاميون لهاتين الآيتين هو أن الذين أنعم الله عليهم هم المسلمون والمغضوب عليهم هم اليهود والضالّين هم المسيحيون. إلا أن التفسير الأدق والمنسجم أكثر مع ما ورد في القرآن لهاتين الآيتين فهو أن المؤمنين مباركون، سواء أكانوا مسلمين أو يهود أو مسيحيين، والكافرين ملعونون والضالين هم المنافقون. فالإسلام رسالة سماوية موجهة للبشرية جمعاء.
وهناك الآية التاسعة عشرة من سورة آل عمران: “إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ”. بالنسبة للمتطرفين المسلمين فإن هذه الآية تعني أن الله فرّق بين الإسلام والمسيحية واليهودية، ولكن في الواقع تشير كلمة “الإسلام” في هذا السياق إلى أولئك الذين يعبدون الله، بمن فيهم اليهود والمسيحيون والمسلمون. وهذا ما تبيّنه سورة آل عمران: “قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.”
علاوة على ذلك، تبنّى المتطرفون حديث منسوب للرسول الكريم محمد (ص) ورد في صحيح مسلم يتعلّق بتنبؤ النبي (ص) نشوب معركة فاصلة في يوم القيامة ما بين اليهود والمسلمين، والتي ستكون نتيجتها هزيمة اليهود وإبادتهم. ويصف الحديث كيف أن الأشجار والحجارة ستدعو المسلمين إلى قتل اليهود المختبئين خلفها. غير أن هذا الحديث يناقض تعاليم الإسلام ونص القرآن و السنة النبوية. فنجد في سورة آل عمران الآية التالية: ” نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ.” وفي سورة العنكبوت، نجد الآية التالية: “وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.” هناك العديد من النصوص الأخرى في القرآن والحديث بما فيها السير الذاتية للرسول الكريم المسجلة في مجموعة أحاديث صحيح البخاري، التي تعارض القراءة المتطرفة التي تم ذكرها آنفاً. فالبخاري يروي حادثة وقف فيها النبي محمد (ص) احترامًا لجنازة صودف مرورها بجانبه، وعلّق الصحابة قائلين: “إنها جنازة يهودي،” فأجاب النبي: “أليست نفسًا؟”
لا يجوز أن يبقى المسلمون المعتدلون مكتوفي الأيدي، إذ علينا أن نوحد جهودنا ونقر بأن ديانتنا يتم استغلالها من قبل أقلية صغرى لغايات سياسية. ولا بد من أن نرفع الصوت عاليًا مهما كانت المخاطر المحدقة بنا لندافع عما نؤمن به. فأصواتنا الموحدة قادرة على كبح جماح الإسلام المتطرف، وعلينا أن ننطلق من قدرتنا على الإبداع والابتكار لتعزيز الاعتدال في الدين والسياسة والحياة، ونسعى إلى تشكيل عالم تسوده المساواة والعدالة والديمقراطية والازدهار. فهذا هو الطريق الصواب.
محمد سليمان الدجاني الداودي هو أستاذ العلوم السياسية ومؤسس حركة الوسطية القائمة على العدل والإعتدال..